جاء عن القديس أرسانيوس إنه كان من روميا العظمى، وكان من أفاضلِ فلاسفتِها. وكان والدُه من أكابرِ البلاطِ المقرَّبين إلى الملكِ. فلما ملك ثاؤدوسيوس أرسلَ إلى الملكِ والبابا بروما طالباً رجلاً فيلسوفاً يُحسن اللغتين الرومية واليونانية لكي يعلمَ أولادَه الحكمَةَ والأدبَ. فلم يجدوا في كلِّ فلاسفة روما رجلاً يشبه أرسانيوس في الحكمةِ والفضلِ ومخافةِ الله. فأرسلوه إلي الملكِ بالقسطنطينية، ففرح به الملك وأحبه لفيضِ معرفتِهِ، ولأجلِ نعمةِ الله التي كانت عليه، فسلَّم له الملكُ أولادَه وقدَّمه على أكابرِ مملكتِهِ. وكان إذا رَكِبَ يكونُ قريباً من الإمبراطور. وكان له أمرٌ نافذٌ وعبيدٌ كثيرون يقومون بخدمته. ولم يتخذ في بيتهِ امرأةً. فلما بلغ مركزاً عظيماً هكذا بدأ يفكر في نفسِهِ قائلاً: «إن كلَّ هذا لا بدَّ له من أن يتلاشى كما ينحلُّ المنامُ، وإن كلَّ غنى الدنيا ومجدِها وجاهِها عبارةٌ عن حلمٍ، ولا يوجد شيءٌ ثابتٌ غيرُ قابلٍ للتغيير، وأنه لا ينفعُ الإنسانَ إلا خيرٌ يقدمه قدامه». فزهدتْ نفسُه كلَّ شيءٍ، وصار يطلبُ من الله كلَّ وقتٍ قائلاً: «عرِّفني يا ربُّ كيف أخلُص». فجاءه يوماً صوتٌ يقول له: «يا أرساني اهرب من الناس وأنت تخلص». فقام لوقتِهِ وترك كلَّ شيءٍ ونزل إلى البحرِ فوجد سفينةً إسكندرية تريد السفرَ، فركب فيها وجاء بها إلى الإسكندرية، ومن هناك أتى إلى الإسقيط إلى الأب مقاريوس، ذاك الذي أسكنه في إحدى القلالي الخارجةِ عن الديرِ لأنه وجده عاشقاً للهدوءِ. وبعد حضورهِ بأيامٍ قلائل تنيَّح الأب مقاريوس. وقد بدأ أرسانيوس حياتَه الرهبانية بنسكٍ عظيمٍ وصلاةٍ وقداسةٍ وزهدٍ حتى فاق كثيرين. وسمع بفضلِهِ أولادُ أكابر القسطنطينية ودواقستها، وابتدأ كثيرون منهم يتزهدون ويجيئون إلى ديارِ مصر ويترهبون.
فسمعتْ بخبرِهِ عذراءٌ من بناتِ رؤساءِ البلاطِ في روما. وكانت غنيةً جداً وخائفةً من الله، فلما جاءت لتُبصرَه ومعها مالٌ كثيرٌ وحشمٌ وجنودٌ، تلقاها البابا ثاؤفيلس البطريرك بوقارٍ كثيرٍ وأضافها. فسألته أن يطلبَ إلى الشيخِ بأن يُفسِحَ لها الطريقَ للمضي إليه. فكتب يقول له: «إن السيدة لارية السقليكي ابنه فلان من بلاطِ ملكِ رومية تريدُ أن تأذنَ لها برؤيتِك لأخذِ بركتَك». وكتب كذلك لمقدمِ الأديرةِ بأن يُمكِّن السيدةَ السقليكي من زيارةِ الآباءِ القديسين وأخذ بركتهم. فلم يشأ الأنبا أرسانيوس أن تأتي إلى البريةِ، وأنفذ لها بركةً من عندِهِ وقال لها: «هو ذا قد علمتُ بتعبِك وسفرِك، ونحن مصلين لأجلِك. فلا تحضري لأني لا أشاءُ أن أُبصرَ وجهَ امرأةٍ». أما هي فلم تقبل وقالت: «إن ثقتي باللهِ أن أُبصرَ وجهَك الملائكي، لأني ما تعبتُ وجئتُ لأنظرَ إنساناً، فبلدي كثيرةُ الناسِ، بل أتيتُ لأعاينَ ملاكاً». وأمرتْ أن يشدُّو على الدوابِ حتى أتت إلى البريةِ. فلما وصلت إليه كان القديسُ أرسانيوس خارجَ قلايته. فما أن أبصرته حتى خرَّت عند قدميهِ، فأقامها بغضبٍ وقال: «لقد آثرتِ أن تُبصري وجهي، وها أنت قد أبصرتِه فماذا استفدتِ»؟ أما هي فمِن حِشمتها لم تستطع النظرَ في وجههِ. فقال لها: «إذا سمعتِ بأعمالٍ فاضلةٍ فاعملي على أن تمارسيها ولا تجولي طالبةً فاعليها. كيف تجرأتِ فعبرتِ هذه البحار؟ أما تعلمين أنك امرأةٌ ولا يليقُ بك الخروج إلى مكانٍ ما. أتريدين المضي إلى رومية قائلةً للنساءِ الباقيات إنني رأيتُ أرساني، فتُحوِّلين البحرَ طريقاً للنساء ليأتوا إليَّ». فأجابته السيدةُ قائلة: «إني لإيماني يا أبي أتيتُ إليك وإن شاء اللهُ لن أَدَع امرأةً تأتي إليك، فصلِّ من أجلي واذكرني دائماً». فأجابها منتهراً قائلاً: «لا. بل إني أصلِّي إلى اللهِ أن يمحوَ خيالَكِ واسمَكِ وذِكرَكِ وفكرَكِ من قلبي». وتركها ودخل قلايته. فلما سمعت ذلك لم تَرُدَّ له جواباً ورجعت وهي قلقةُ الأفكارِ. ولما دخلت الإسكندرية اعترتها حمى لفرطِ حزنِها. أما البابا البطريرك فإنه استقبلها بإكرامٍ جزيلٍ، وسألها عن أمرِها. فقالت: «يا أبتاه، ليتني ما قابلتُ الشيخَ لأني لما سألتُه أن يذكرَني أجابني: إني أصلِّي إلى الله أن يمحوَ خيالَكِ واسمَكِ وذِكرَكِ وفكرَكِ من قلبي. وهو ذا عبدتُك تموتُ من الحزنِ». فقال لها البابا البطريرك: «ألا تعلمينَ أنكِ امرأةٌ، وأن العدوَ يُقاتلُ الرهبانَ بالنساءِ. فإلى ذلك أشار الشيخُ. وأما عن نفسِك فهو يصلِّي دائماً وغيرُ ناسٍ تعبَك وسفرَك». فطاب قلبُها ورجعت إلى بلادِها مسرورةً.
جلس الأب أرسانيوس في بعضِ الأيامِ يأكلُ فولاً مسلوقاً مع الإخوةِ، وكانت عادتهم أن لا ينقُّوه. أما هو فكان يُنقِّي الفولَ الأبيضَ من بين الأسودِ والمسوِّس ويأكلُه. فلم يوافق رئيسُ الديرِ على ذلك، وخشي أن يَفسدَ نظامُ الديرِ. فاختار رئيسُ الديرِ أحدَ الإخوةِ وقال له: «احتمل ما أفعله بك من أجلِ الربِّ». فأجابه الأخُ: «أمرُكَ يا أبي». قال: «اجلس بجانب أرسانيوس ونقِّ الفولَ الأبيضَ وكُلْهُ». فعمل الأخُ كما أمره رئيسُ الديرِ، الذي فاجأَهُ بلطمةٍ مُرَّةٍ على صدغِهِ وقال: «كيف تنقي الفولَ الأبيضَ لنفسِك وتترك الأَسودَ لإخوتك»؟ فسجد أرسانيوس للرئيسِ وللإخوةِ وقال لذلك الأخ: «يا أخي، إن هذه اللطمةَ ليست لك ولكنها موجهةٌ لخَدِّ أرسانيوس». وأردف قائلاً: «هوذا أرسانيوس معلمُ أولادِ الملوكِ اليونانيين لم يعرف كيف يأكلُ الفولَ مع رهبانِ إسقيطِ مصرَ، وهكذا ازداد فهماً واحتفاظاً بموهبتهِ».
قيل إن أحدَ الإخوةِ المجاورين لقلاية أنبا أرساني خرج يوماً ليقطع خوصاً. وكان يوماً حرُّه شديدٌ. فلما قطع الخوصَ ورجع أراد أن يأكلَ، فلم يمكنه أن يبلعَ الخبزَ اليابسَ لأن الحرَّ كان قد يبَّس حلقَه. وفي ذلك الوقتِ كان الإخوة بالإسقيط يسلكون بتقشفٍ عظيمٍ ونسكٍ زائدٍ، فأخذ الأخُ وعاءً به ماء وأذاب فيه قليلاً من الملح، وبلَّ فيه الخبزَ وبدأ يأكلُ. فدخل إليه الأب إشعياء ليفتقِدَه، فلما أحسَّ الأخُ بالأنبا إشعياء رفع الوعاءَ وخبَّأه تحت الخوصِ. وكان أنبا إشعياء رجلاً ذكياً حاراً في الروحِ جداً. وكان يعلمُ بأن أنبا أرسانيوس يعمل صِنفَين من الطعامِ: بَقلاً وخلاً، ولكن لأجلِ احتشامهِ لم يُرِد الآباءُ أن يكسروا قلبَه سريعاً. فوجد أنبا إشعياء أنها فرصةٌ مناسبةٌ لأن يؤدِّبَ أنبا أرسانيوس بواسطةِ هذا الأخ. فقال للأخِ: «ما هذا الذي خبأته مني»؟ فقال الأخُ: «اغفر لي يا أبي من أجلِ محبةِ السيد المسيح. لقد دخلتُ البريةَ لأقطعَ خوصاً فاشتدَّ عليّ الحرُّ جداً لدرجةِ أنه سدَّ حلقي. فلما دخلتُ القلايةَ أردتُ أن آكُلَ فلم أستطع بلعَ الخبزِ لجفافِ فمي وحلقي، فأخذتُ ماءً وأذبتُ فيه قليلاً من الملح وبللتُ به القراقيش ليَسهُلَ لي بلعه». فأخذ الأنبا إشعياء الوعاءَ وخرج ووضعه قدام قلاية أنبا أرسانيوس وقال للمراقب: «دُقَّ الجرسَ كي يحضرَ الإخوةُ ليبصروا الأخ زينون كيف يأكلُ مَرَقاً»، فلما حضروا التفتَ إلى الأخِ وقال له أمام الإخوةِ: «يا أخي، لقد تركتَ تنعمَك وكلَّ ما لك وجئتَ إلى الإسقيط حباً في الربِّ وفي خلاصِ نفسِك. فكيف تريدُ الآن أن تُلذِّذَ ذاتَك بالأطعمةِ؟ إن كنتَ تريدُ أن تأكلَ مَرَقاً امضِ إلى مصرَ لأنه لا يوجد في الإسقيط تنعمٌ». فلما سمع الأنبا أرسانيوس قال لنفسِهِ: «هذا الكلام موجَّهٌ إليك يا أرساني». وفي الحال أمر خادمَه أن يعملَ له بقولاً فقط. وقال: «ها أنا قد تأدبتُ بسائرِ حكمةِ اليونانيين أما حكمةُ هذا المصري بخصوصِ الأكلِ وحُسنِ تدبيرهِ فإني لم أصل إليه بعد. لقد صدق الكتاب إذ يقول: وتأدَّب موسى بكلِّ حكمةِ المصريين».