أرحمنى يا الله كعظيم رحمتك و مثل كثرة رأفتك تمحو أثمى و تغسلنى من كثيراً من أثمى و من خطيتى تطهرنى . لأنى عارف بأثمى ، و خطيتى أمامى فى كل حين . لك وحدك أخطأت و الشر قدامك صنعت . لكي تتبرر فى أقوالك و تغلب إذا حوكمت لأنى ها أنذا بالاثم حبل بى ، و بالخطايا ولدتنى أمى .
لأنك هكذا قد أحببت الحق . اذ أوضحت لى غوامض حكمتك و مستوراتها . تنضح على بزوفاك فأطهر . و تغللنى فأبيض أكثر من الثلج . تسمعنى سروراً و فرحاً فتبتهج عظامى المنسحقة . أصرف وجهك عن خطاياى و أمح كل آثامى .
قلباً نقياً اخلق فى يا الله و روحاً مستقيماً جدده فى أحشائى لا تطرحنى من قدام وجهك و روحك القدوس لا تنزعه منى . امنحنى بهجة خلاصك . و بروح رئاستى ثبتنى فأعلم الأثمه طرقك و المنافقون إليك يرجعون .
نجنى من الدماء يا الله إله خلاصى فيبتهج لسانى بعدلك . يا رب افتح شفتى فيخبر فمى بتسبيحك لأنك لو آثرت الذبيحة لكنت الأن أعطى . و لكنك لا تسر بالمحرقات فالذبيحة لله روح منسحق . القلب المنكسر و المتواضع لا يرذله الله .
انعم يا رب بمسرتك على صهيون و اتبن أسوار أورشليم حينئذ تسر بذبائح البر قرباناً و محرقات و يقربون على مذابحك العجول هللويا .
تشمل المزامير موضوعات متعددة جداً …
ففيها التسبيح و التمجيد ، و التأمل فى صفات الله و فى أعماله ، و فى خليقته و فى ملكه ، و فى وصاياه و فى مساكنه . و فى المزامير أيضاً طلبات متنوعة ، و صراخ إلى الله . و فىها الشكوى و العقاب أيضاً ، و فيها عبارات الحب و الاشتياق إلى الله ، و الشكر و الاعتراف بجميل الرب و برعايته و أفضاله ، و فيها الفرح و التهليل ، و ذكريات الحياة مع الله . و فى المزامير أيضاً نبوءات ، و كلمات البركة ، و نصائح و ارشادات ، و تطويبات . و فيها أيضاً كلمات البركة ، و نصائح و ارشادات ، و تطويبات . و فيها أيضاً كلمات التوبة ، و انسحاق القلب ، و الدموع ، و الاعتراف بالخطية .
و المزمور الخمسون هو من مزامير التوبة ، بل هو اشهرها .
و لعل أول مزمور من مزامير التوبة هو المزمور السادس ، الذى يبدأ بعبارة " يا رب لا تبكتنى بغضبك ، و لا تؤدبنى بسخطك " . و المزمور الثامن و الثلاثون يبدأ بنفس العبارة أيضاً .
و يمكن أن نعتبر من مزامير التوبة أيضاً السالفة فى الترتيب المزمور الخمسين و المزمور 32،و المزمور 25،12… و لكن المزمور الخمسين هو أشهرها جميعاً . و رقمه فى الترجمة البيروتية 51. و الكنيسة تضعه فى مقدمة كل صلاة فى الأجبية :
سواء ذلك فى صلوات النهار أو الليل . نكرره أكثر من سبع مرات كل يوم ، و يدخل فى صلواتنا الطقسية ، و هو ملازم فيها للصلاة الربية و صلاة الشكر . و لا يوجد إنسان متدين إلا و يحفظه ، حتى تلاميذ التربية الكنسية يحفظونه … و من شهرته وضعت فيه الكثير من الكتب لعديد من مشاهير الوعاظ و المفسرين ، فى كل الكنائس …
أول من صلاه هو داود النبى بعد سقطته :
بعد أن أخطأ مع بثشبع ، و تسبب فى قتل أوريا الحثى . و بعد أن أرسل له الله ناثان النبى ينبهه إلى بشاعة فعله ، و يقول له " أنت هو الرجل " (1صم7:12) . فاعترف داود و قال : " أخطأت إلى الرب " (2صم 13:12) . و قد سرد عليه ناثان انذارات الرب و عقوباته " جعل أعداء الرب يشمتون " . و بدأ داود يشعر بثقل ذنبه ، و صلى هذا المزمور ، و بدأه بقوله :
عبارة " أرحمنى يا الله " عبارة يقولها كل إنسان :
نعم ، كل إنسان أياً كان قدره ، لأن كل إنسان محتاج إلى الرحمة . نحن نبدأ بها الصلوات إذ نقول " أبشويس ناى نان " و معناها بالقبطية " يا رب ارحمنا " . و نقولها حينما نردد كلمة كيريا ليصون 41مرة فى كل صلاة ، و تعنى فى اليونانية أيضاً " يا رب أرحمنا " . و نقولها فى لحن " أفنوتى ناى نان " أى يا الله أرحمنا . و نقول فى الثلاث تقديسات " أيها الثالوث المقدس ارحمنا " ثلاث مرات . وننتهى بقولنا : يارب أرحم ، يارب ارحم ، يارب بارك أمين … نبدأ فى الصلوات ، ونكررها مرات ومرات …
وهنا يقول المرتل : ارحمنى ياالله … لأن هذا هو المدخل الوحيد الذى أدخل به إليك …
أنا خاطئ تحت الحكم ، و معترف بخطيئتى ، و مستوجب لكل دينونة . و ليس أمامى سوى باب واحد أدخل منه إليك ، و هو رحمتك … رحمتك أنت ، المعروف بالرحمة ، و أيضاً بالمغفرة .
و لقد ردد هذا المعنى فى المزمور 103 فقال " الرب رحيم و رؤوف طويل الروح كثير الرحمة .. لم يصنع معنا حسب خطايانا و لم يجازنا حسب آثامنا . مثل آرتفاع السموات فوق الأرض ، قويت رحمته على خائفيه … كبعد المشرق عن المغرب ، أبعد عنا معاصينا " ( مز8:103-12) .
و فى هذا المزمور يذكر الرحمة أولاً قبل ذكر خطاياه :
يذكرها الله ، فتغطى على الخطايا و تخفيها ، لأن هذه الرحمة هى سبب المغفرة . و ماذا تكون خطايا أى إنسان ، إذا وضعت أمام مراحم الله ؟! إنها لا شئ : كقطعة من الطين ألقيت فى المحيط ، يفرشها فى أعماقه و لا تظهر . و هكذا نحن نصلى و نقول " كرحمتك يا رب و ليس كخطايانا " . و فى هذا قال داود أيضاً " أذكر مراحمك يا رب و أحساناتك ، لأنها منذ الأزل هى . لا تذكر خطايا صباى و معاصى " (مز6:25،7) . و فى صلاة العشار ، ذكر الرحمة أولاً قبل الخطية ، فقال " ارحمنى أنا الخاطئ " (لو13:18) .
و لأن الخطية بشعة ، فإن المرتل يذكر الله بعظيم رحمته :
برحمته غير المحدودة ، التى تتسع لجميع الخطايا ، لجميع الناس ، فى جميع العصور … منذ آدم خلال جميع الأجيال … و كأنه يقول : فى أنا الخاطئ تظهر جميع مراحمك ، أجعلنى موضوعاً لرحمتك . أضف إسمى إلى القائمة غير المحصاة لخطاة غفرت لهم … لأولئك الذين قدمت عنهم المحرقات و ذبائح الخطية و ذبائح الإثم .
و بالنسبة إلينا – حينما نصلى هذا المزمور – نضيف إلى مراحم الله العظيمة كل ما شملته بعد عصر داود النبى : المرأة المضبوطة فى ذات الفعل ، و المرأة التى بللت قدميه بدموعها ، و المرأة السامرية ، و أوغسطينوس ، و موسى الأسود ، و كبريانوس الساحر ، و لونجينوس الحندى ، و أريانوس الوالى ، و بيلاجيه و مريم القبطية ، و كثيرين آخرين كمجرد أمثلة لمن تراءف عليهم الرب ، و شملهم بعظيم رحمته .
هنا نسمع ألفاظ الرحمة و الرأفة و ليس مشاعر الدالة .
فالإنسان فى حالة الخطية ، لا تملكه مشاعر الدالة ، و إنما الإحساس بالذلة ، هنا لا يقول داود " محبوب هو إسمك يا رب ، فهو طول النهار تلاوتى " (مز119) " بإسمك أرفع يدى ، فتشبع نفسى حما من شحم و دسم " (مز62) ، " كلماتك حلوة فى حلقى ، أفضل من العسل و الشهد فى فمى " (مز119) … نعم لا يستطيع أن يقول " كما يشتاق الإيل إلى جداول المياة ، هكذا تشتاق نفسى إليك يا الله … عطشت نفسى إلى الله " (مز42)، " عطشت نفسى إليك " (مز62) … هذه الدالة أختفت ، بكسره لوصايا الله … إنما الحديث هنا عن الرحمة و الرأفة … فيتابع كلامه و يقول :
إلى جوار الرحمة العظيمة التى يستند إليها ، يستند أيضاً إلى رأفات الله الكثيرة … و هاتان الصفاتان جمعهما معاً فى قوله " الرب رحيم و رؤوف " (مز5:103) . و نفس الصفتين جمعهما أيضاً يونان النبى فى قوله للرب " علمتأنك إله رؤوف و رحيم ، بطئ الغضب ، و كثير الرحمة " (يون2:4) . و الرأفة عند الله تشمل الحنان و العطف و طيبة القلب … فكم إذن كثرة رأفاته ؟ …
إنه من أجل كثرة رأفات الله يطلب منه ليس فقط أن يغفر إثمه ، إنما أن يمحوه تماماً .
يمحوه ، أى لا يبقى له أى أثر على الإطلاق ، كأن لم يحدث . و هذا الأمر يتفق تماماً مع مراحم الله و رأفاته . – إنه هو القائل – فيما بعد – فى سفر اشعياء " أنا هو الماحى ذنوبك . و خطاياك لا أذكرها " (اش25:43) و أيضاً " قد محوت كغيم ذنوبك ، و كسحابة خطاياك " (اش22:44) . و يقول فى سفر ارميا النبى " لأنى أصفح عن إثمهم ، و لا أذكرخطيتهم بعد " (أر34:31) … إن الله يكرر عبارة " أمحو " و عبارة " لا أذكر " .
نعم يا رب . لأنك إن كنت لا تمحو إثمى ، سيمحى إسمى من سفر الحياة !
ليتك تمحوها يا رب ، حسب وعدك الصادق . حينما قلت : هلم نتحاجج " إن كانت خطاياكم كاقرمز . تبيض كالثلج " (اش18:1) . و هكذا لا تذكرها لى . و لا تؤثر على محبتك لى فى المستقبل . و لا تجعلها سبباً لزوال الدالة بينى و بينك . و لا يضيع كل تاريخى الحلو معك بسببها .
هنا داود يطلب محو الخطية و ليس محو العقوبة .
كانت لخطيته عقوبتان : العقوبة الأبدية ، و هذه غفرها له الله حينما قال له ناثان " الرب نقل عنك خطيتك . لا تموت " (2صم13:12) . أى قد نقل هذه الخطية من حسابك إلى حساب المسيح الفادى ، فلن يلحقك بسببها الموت الأبدى . و لكن كانت هناك عقوبة أرضية أخرى مثل " لا يفارق السيف بيتك … و الإبن المولود لك يموت " و مثل أنتهاك نسائه (2صم12) … كل هذه العقوبات ، لم يتعرض لها داود فى هذا المزمور ، و لم يطلب مسامحته … كان همه كله ، فى رفع الخطية ذاتها . و فى نتائجها عليه …
و كانت هناك عقوبة ثالثة هى الأصعب . و هى غضب الله عليه . و كانت تتعبه بالأكثر .
وهى التى قال عنها فى المزمور فيما بعد " لا تطرحنى من قدام وجهك . و روحك القدوس لا تنزعه منى " … أن داود يريد فى طلبته بالدرجة الأولى رضا الرب عليه … بمحو هذه الخطية التى تقف حائلاً بينه و بين الله … يريد أن يصطلح مع الله ، بنقض هذا الحائط المتوسط بينه و بينه … و يحيا فى حياة الشركة الإلهية ، و قوة المسحة المقدسة فى حياته . لذلك يقول :
هنا يقول داود " إثمى … و خطيتى " و يكرر نفس الكلمتين فى الآية التالية . ثم يضيف إلى إثمه و خطيئته عبارة " و الشر قدامك صنعت " … إنها صفات ثلاثية يصف بها سقطته . و يذكر أيضاً أن هذه السقطة قذارة فى حياته تحتاج إلى غسيل ، و نجاسة تحتاج إلى تطهير … فيقول " أغسلنى كثيراً حتى أصل إلى النقاوة المطلوبة . و عبارة " كثيراً " تدل على شعوره ببشاعة خطيئته … و طبعاً فى هذا الغسل الكثير . يحتاج إلى عصر كثير ، حتى يتنظف ، و عبارة " طهرنى " تدل أيضاً على شعوره ببشاعة الخطية .
حسن أن يشعر الإنسان أن خطيئته نجاسة تحتاج إلى تطهير .
ليس فقط خطايا الجسد كالزنى ، و إنما حتى أيضاً خطايا اللسان ، التى قال عنها الرب " بل ما يخرج من الفم ، هذا ينجس الإنسان " (متى11:15) . و قال معلمنا يعقوب الرسول " … اللسان الذى يدنس الجسم كله " (يع6:3) . بل إن العمل فى يوم الرب ، اعتبره الرب نجاسة فقال " نجسوا سبوتى " (حز13:20) … فكم بالأولى يكون الزنى ؟! كل هذا يحتاج إلى تطهير ، لأن جسد الإنسان هو هيكل الله (1كو19:6) و ينبغى أن يكون مقدساً …
الإنسان البار يشعر ببشاعة الخطية و أنها نجاسة . أما الشيطان فيقلل من قدر الخطية .
و بسبب شعور داود ببشاعة خطيئته ، قال فى المزمور السادس " تعبت فى تنهدى ، أعوم كل ليلة سريرى ، و بدموعى أبل فراشى " . و قال أيضاً " آثامى قد طمت فوق رأسى ، كحمل ثقيل أثقل مما أحتمل . قد أنتنت ، فاحت … اليوم كله قد ذهبت حزيناً … انسحقت إلى الغاية … يا رب أمامك كل تأوهى و تنهدى … ليس بمستور عنك … قلبى خافق فارقتنى ، و نور عينى أيضاً ليس معى " (مز4:38-10) . لماذا كل هذا ؟
إنه لا ينكر خطيئته ، و لا يخفيها ، و لا يبررها ، و لا يتهرب منها . بل هو يعترف بها علانية أمام الله ، و قد أعترف بها أمام ناثان النبى … و يعترف بها أمام الجميع و أمام التاريخ فى هذا المزمور … و يقول كل ذلك باقتناع داخلى ، و بندم و حزن و دموع … إنه عارف بإثمه . انكشفت نفسه أمامه و أمام الله . فإذا هى تحتاج إلى غسيل و إلى تطهير … و هو يضع خطيئته أمامه كل حين . و كما قال القديس أنطونيوس :
إن ذكرنا خطايانا ، ينساها لنا الله . و إن نسينا خطايانا يذكرها لنا الله .
فأنا أقول لك يا رب ككثرة رأفاتك أمح إثمى . أما أنا فلا أمحوه أبداً من ذاكرتى ، إنه أمامى كل حين … أما يسحق نفسى ، و يعلمنى الإتضاع ، و يجذبنى إلى أسفل كلما ارتفعت . إنه أمامى حينما يشتمنى شمعى بن جيرا ، فأقبل منه شتيمته لأنى أستحقها بسبب خطاياى ، و أقول فى إنسحاق " الرب قال له سب داود" (2صم10:16) . خطيئتى أمامى تجلب لى الدموع و تشعرنى بضعفى ، و تجعلنى أشفق على الساقطين ، حتى على ابشالوم .
حسن أن يضع الإنسان خطاه أمامه كل حين ، ماعدا تفاصيل الخطايا الإنفعالية و الشهوانية .
هذه التى إن ظل يفكر فيها ، قد تعود إليه . إنما يكفى أن يشعر بخطيئته ، دون أن يذكر تفاصيلها . يضع خطاياه أمامه حتى لا يدين أحداً ، لأن الذى بيته من خارج ، لا يقذف الناس بالحجارة ، و بالتالى لا يقسو على أحد ، و لا يشهر بأحد … و يتذكر خطاياه ، يحترس فى المستقبل و لا يتهاون
داود يقول إثمى ، و خطيئتى … و لا يذكر عثرة للمرأة .
إنه يركز على خطيئته ، و لا يلقى بمسئوليتها على أحد … لا يفعل مثل أبينا آدم الذى قال للرب " المرأة التى جعلتها معى ، هى أعطتنى فأكلت " (تك12:3) . فلم يقبل الرب ذلك منه ، لأن كل إنسان مسئول عن فعله أمام الله … حسن أن داود عارف بإثمه ، و ليس بإثم غيره …
متى يمكننا أن نعرف أنفسنا و نعرف خطايانا ؟
ألا يحتاج هذا منا ، أن نجلس إلى أنفسنا ، و نفحصها جيداً بغير تحيز و لا مجاملة ، و ندرك ماهى فيه من ضعف و من سقطات ، و نعرضها أمام الله … و يقول له كل منا فى إنسحاق قلب : " أغسلنى كثيراً من إثمى ، و من خطيتى طهرنى … لأنى أنا عارف بإثمى ، و خطيئتى أمامى فى كل حين " .
بعد أن يضع المرتل خطيته أمامه كل حين ، يقول : لك و حدك أخطأت …
لا شك أن داود قد أخطأ إلى كثيرين ، من بينهم بثشبع و أوريا الحثى (2صم11) . و مع ذلك فإنه يقول للرب " لك وحدك أخطأت ، و الشر قدامك صنعت " . فما هى المشاعر التى تختفى وراء عبارة " لك وحدك " ؟ لعلنا نذكر من بينها ثلاثة أعتبارات هى :
1- فى شعوره بأن الخطية ضد الله ، تتصاغر و تتضاءل كل الاعتبارات الأخرى كأن لا وجود لها .
إنه أخطأ ضد وصية الله ، و هكذا تمرد عليه و كسر وصاياه . و أخطأ ضد محبته و ضد أحساناته الكثيرة … الله الذى أخذه من وسط الغنم ، و رفعه و رقاه … الله الذى حفظه من كل مؤامرات شاول و باقى أعدائه … الله الذى باركه ببركات عديدة … الله الذى خلقه ، و الذى منحه هذه الحرية التى أستخدمها ضده .
إنه أخطأ إلى عين الله الطاهرة التى رأت خطيته .
من أجل هذا قال أيضاً و الشر قدامك صنعت " … نوع من الإستهانة و عدم الخجل ، أن يخطئ الإنسان تحت سمع الله و بصره … أمامه ، بلا حياء … أمامه كأب ، و قدوس ! و لذلك عندما عرضت الخطية على يوسف الصديق ، فزع أمام خطورة هذا الأمر و قال " كيف أصنع هذا الشر العظيم ، و أخطئ إلى الله " (تك9:39) … و لم يقل " و أخطئ إلى فوطيفار أو إلى زوجته " و إنما قال " أخطئ إلى الله " … الله الموجود فى كل مكان ، و يرى كل شئ …
يقيناً أن الإنسان و هو يخطئ . لا يجعل الله أمامه !
لا يفكر وقتها أن الله يرى و يلاحظ و يسمع – يشعر أنه واقف أمام الله ، الله القدوس … و كل هذه خطايا أخرى ، أن يكون ناسياً لله ، و غير حاسب أى حساب لوجوده . و هذا الأمر نفسه لام داود عليه أعداء الله حينما قال " الغرباء قد قاموا على ، و العتاة طلبوا نفسى … و لم يجعلوا الله أمامهم " (مز3:54) . و لذلك فإن الإنسان الذى يجعل الله فى فكره باستمرار ، من الصعب أن يخطئ ، لأن الله أمامه ، لا حصر له ، " استحياء الفكر " .
داود كان وقت الخطية ، فى فترة استرخاء ، بعيداً عن الصلة بالله !
لم يكن مشغولاً بالرب ، لم يكن فى مشاعر الحب الإلهى التى يقول فيها " محبوب هو إسمك يا رب ، فهو طول النهار تلاوتى " (مز119) … يقيناً لو كان فى ذلك الوقت يتلو فى إسم الله المحبوب لديه ، ما كان قد أخطأ …
و لكن كما يقول الكتاب ، و كان فى وقت المساء ، أن داود قام عن سريره ، و تمشى على سطح بيت الملك ، فرأى … " (2صم2:11) . ترك الشعب يحارب فى الميدان ، و نام هو فى بيته ، و خرج يتمشى على السطح … رفاهية جديدة لم يعشها من قبل ، حين كان ينزل إلى الحرب مع جنوده . و فى نفس الوقت لم يقم عن سريره ليصلى ، مثلما كان يقول " كنت أذكرك على فراشى ، و فى أوقات الأسحار كنت أرتل لك " … و حينما أتته التجربة ، لم يكن الله أمامه ، فأخطأ إليه …
إن الشيطان يعرف الوقت الذى يضرب فيه ضربته .
ينتهز الفرصة التى يكون فيها الإنسان بعيداً عن صلواته و مزاميره و تأملاته ، بعيداً عن الوسط الروحى ، و ليس أمامه ، و حينئذ يضربه و هو غير محصن … الله ليس فى فكره ، و لا فى قلبه … و هنا ، حينما قال داود للرب " لك وحدك أخطأت " ، إنما يقصد أمرين : أخطأت أولاً إليك ، حينما أبتعدت عنك ، و عن مناجاتك ، و لم أجعلك فى فكرى و قلبى و حينئذ أخطأت فى الثانية، فسقطت و كسرت وصاياك .
أخطأت إليك ، لأنى احزنت قلبك المحب …
احزنت روحك القدوس الذى من جهته أصرخ إليك قائلاً " روحك القدوس لا تنزعه منى " (مز11:51) . و هكذا حطمت حياة الشركة التى تربطنى بك ، و أنفصلت عنك بخطيتى ، و فقدت الداله التى بينى و بينك . و فى ضوء العهد الجديد ، يمكن أن يقول المصلى " نجست هيكلك المقدس ، الذى هو جسدى " (1كو16:3،17) . و هكذا أكون قد أخطأت إليك . و أيضاً فى خطيتى . ، أكون مقاوماً لروحك القدوس و عمله فى (أع51:7) ، و أيضاً فى خطيئتى يقف أمامى قول الرسول " لا تحزنوا روح الله القدوس الذى به ختمتم " (أف30:4) … إن حزنك هو أعظم خطية أرتكبها . لك وحدك أخطأت …
و الشر قدامك صنعت ، فى كل تفاصيل الخطية :
تفكيرى فى الخطية ، و انفعالى الداخلى بها ، كان أمامك ، و إن لم يره أحد … و تنفيذى للخطية كان قدامك أيضاً ، وكذلك كانت أمامك كل محاولاتى لاخفاء الخطية و الهروب من نتائجها . و فى كل تلك المراحل كان ضميرى نائماً قدامك أيضاً ، و كانت الخطية تتعدد و تتطور من خطوة إلى أخرى . و أنت ترى ، و يكتب أمامك سفر تذكرة (ملا16:3) .
أخطأت أمامك كإله ، و أيضاً كقاض و ديان :
حقاً ما ابشع أن يرتكب الإنسان الذنب أمام قاضية ، بلا خوف ، و لا حياء … أخطأت أمامك و أنا أعرف تماماً أننى سأقف أمامك أيها الديان العادل . و لا يحتاج إثبات ذنبى إلى شهود . فالقاضى نفسه هو الشاهد !
و لكن لعل هذا الأمر لم يكن فى ذهنى فى ذلك الوقت ! و لكن عدم وجوده فى ذهنى هو خطية أخرى … أن أتجاهل الله ! نعم أخطأت إليك أيها الديان العادل . أخطأت إلى هيبتك الإلهية ، كما أخطأت إلى محبتك الأبوية …
و لست أجد علاجاً لكل هذا ، سوى قولى أخطأت إليك و عبارة أخطأت إليك ليست علاجاً ، إنما هى صرخة … إلى رحمتك .
2- أخطأت إليك وحدك ، على الرغم من خطيئتى إلى غيرك ؟
و ذلك لأن هذا الغير ليس منفصلاً عنك ، بل كل من أخطأت إليهم هم خليقتك ، و هم أولادك ، منتمون إليك . . و الخطأ إليهم يعتبر فى نفس الوقت خطأ إليك وحدك و أنت نسبت كل ما يفعل إليهم إليك ، فقلت : مهما فعلتموه بأحد أخوتى هؤلاء الأصاغر ، فبى قد فعلتم (متى40:25) ، سواء كان خيراً أو شراً … بل إن مجرد عدم عمل الخير إلى الناس ، يعتبر خطية موجهة إليك ، كعدم اطعام الجائع ، و عدم زيارة المريض ، فتعاقب هؤلاء قائلاً " الحق أقول لكم : بما أنكم لم تفعلوه بأحد هؤلاء الأصاغر ، فبى لم تفعلوا " (متى45:25) … كم إذن خطية الاعتداء و الإساءة و التدنيس !
كم إذن الخطية إلى أشخاص هم أعضاء فى جسدك ؟!
ألست أنت هو الرأس ، و هم أعضاء فى جسدك . و كما يقول الرسول عنك " لأننا أعضاء جسمه ، و من لحمه و من عظامه " (أف30:5) . فالكنيسة هى جسد المسيح . من يخطئ إلى عضو فيها ، إنما يخطئ إلى المسيح نفسه و يقول له : لك وحدك أخطأت . هو الكرمة و نحن الأغصان (يو5:15) . من يجرح غصناً ، إنما يجرح الكرمة ذاتها …
3- حتى خطيئتى ضد نفسى ، هى موجهة إليك أيضاً …
فأنا منك ، إبن لك . و عندما يخطئ أولاد الله ، إنما يسيئون إلى الأسرة كلها ، و إلى الأب نفسه . و هكذا فإن الرسول يقول " الذى تفتخر بالناموس ، أبتعدى الناموس تهين الله ؟ لأن إسم الله يجدف عليه بسببكم بين الأمم " (رو23:2،24) . فإن كان إسم الله يجدف عليه بسببك ، إلا تقول له " لك وحدك أخطأت " ؟ كم بالأولى إذن داود الذى كان يعتبر مسيحاً للرب ؟! لذلك قال له ناثان موبخاً " قد جعلت بهذا الأمر أعداء الرب يشمتون " (2صم14:12) . هى إذن خطية موجهة إلى الرب ، جعلت أعداءه يشمتون .
4- هناك أعتبار رابع نقوله فى مفهوم الفداء فى العهد الجديد :
لك وحدك أخطأت ، لأن كل خطية أرتكبها ، ستحملها أنت عنى ، لكي تمحوها بدمك الكريم . فأنا إنما أخطئ بها إليك وحدك ، لأنك أنت وحدك الذى تحملها ، و أنت وحدك الذى تدفع ثمنها للعدل الإلهى . و ذلك كما قال اشعياء النبى " هو مجروح من أجل معاصينا ، مسحوق لأجل آثامنا … كلنا كغتم ضللنا ، ملنا كل واحد إلى طريقه … و الرب وضع عليه إثم جميعنا " (اش5:53،6) .
فأنا أخطأت إليك وحدك ، لأننى حملت كل آثامى :
ما أخطأت به إلى بثشبع ، و إلى أوريا ، لم تحمله هى ، و لا هو و لا أنا ، و إنما حملته أنت . أنت القدوس ، الذىبلا خطية وحدك ، قد وضع عليك إثم جميعنا . و حينما أقول لك " و مثل كثرة رأفاتك تمحو إثمى " ، إنما أقصد أن تمحوه بدمك ، تضعه عليك ، و تدفع ثمنه نيابة عنى ، و تكون أنت الفادى الذى تبذل ذاتك عنى . لذلك أنا أعترف بخطاياى لكي تحملها عنى ، كذبيحة خطية … إذن فأنا " لك وحدك أخطأت " أيها الفادى الحنون …
لا يقل أحد إذن : أنا لم أخطئ ، لأنى لم اسء إلى أى إنسان ! …
سواء أسأت إلى إنسان أو لم تسء ، فأنت قد أسأت إلى الله … مثال ذلك : خطايا الفكر ، أو النية ، مجرد رغبات القلب الخاطئة … أنت لم تضر بها أى أنسان ، و لكنك تقول عنها لله " لك وحدك أخطأت " – أخطأت إليك يا فاحص القلوب و قارئ الأفكار … أخطأت إليك ، لأنى رفضت شركتك أثناء أخطاء الفكر و القلب هذه . لأنك نور ، و هذه الأفكار ظلمة " و لا شركة للنور مع الظلمة " (2كو14:6) …
الخطية أصلاً موجهة إلى الله ، قبل أن تتجه إلى أحد من الناس …
منذ بدايتها فى الفكر و فى القلب ، و قبل أن تخرج إلى حيز العمل و التنفيذ ، هى تمرد على وصاياه ، و على محبته … هى ضد الله فى عملها ، و فى نتائجها أيضاً ، لأنها توجد خصومة بين الله و الإنسان . و لذلك قال الرسول عن عودة الناس إلى التوبة ، إنها خدمة المصالحة " … فقال " و أعطانا خدمة المصالحة إذن نسعى كسفراء للمسيح ، كأن الله يعظ بنا " نطلب عن المسيح : تصالحوا مع الله " (2كو18:5،20) .
ما هو شعورك إذن ، حينما تدرك أنك فى خصومة مع الله ؟.
بغض النظر إن كانت الخطية ضد الناس أو ضد نفسك ، إنما هى خصومة مع الله و أنفصال عنه … و قد شرحنا لك هذا الأمر و بالتفصيل فى كتابنا [ الرجوع إلى الله ] … إذن فأنت محتاج إلى أن تعود إلى الله ، و تجدد علاقتك معه و ارتباطك به . و تبدأ ذلك بقولك له " لك وحدك أخطأت " .
نقول هذا أيضاً حتى عن خطايا الجهل :
إننا نطلب فى صلاة الثلاث تقديسات أن يغفر الله لنا سيئاتنا التى فعلناها بمعرفة و التى فعلناها بغير معرفة . لأنها سواء كانت بمعرفة أو بغير معرفة ، هى كسر لوصايا الله ، و بعد عن حياة الكمال . كما أن الجهل أيضاً أيضاً قد يعتبر خطية . فالمفروض فينا أن نعرف و أن ننمو فى المعرفة ، سواء بقراءة الكتب المقدسة أو عن طريق الصلاة ، قائلين للرب " عرفنى يا رب طرقك ، فهمنى سبلك " . و إن كنا لا نقرأ الكتب التى تحكمنا للخلاص (2تى 15:3) فإنه ينطبق علينا قول الرب " تضلون إذ لا تعرفون الكتب " (متى29:22) .
حقاً إنك تخطئ إلى الله ، حينما تهمل كتبه و تهمل معرفته .
المفروض فيك أن تسعى إلى معرفة الله ، و أن تجد لذة فى معرفة وصاياه ، و أن تنمو يوماً بعد يوم فى المعرفة . و تعتبر رفض هذه المعرفة خطية . اتراك تستطيع أن تقول : لا أريد يا رب أن أعرفك و لا أريد أن أعرف طرقك ! إنك لا تجرؤ طبعاً أن تقول هذا ، و لكنك تفعل ذلك عملياً ، حينما لا تستخدم الوسائل التى توصلك ؟إلى هذه المعرفة … فإن قصرت فى معرفة الله ، و لم تهتم بهذا الأمر ، ألا تقول له " لك وحدك أخطأت " .
هوذا السيد يقول عن تلاميذه فى مناجاته للآب :
" عرفتهم إسمك و سأعرفهم ليكون فيهم الحب الذى أحببتنى به . و أكون أنا فيهم " (يو26:17) ..
إذن معرفة الله تؤدى إلى محبة الله . لأنه كيف تحب الله إن لم تعرفه ؟! لا شك أنك كلما تعرفه أكثر ، حينئذ تحبه أكثر . فالذى يقصر فى معرفة الله ، إنما يقصر فى محبته ، أو فى الوسائل التى توصله إلى محبته . ألا يقول له حينئذ " لك وحدك أخطأت " … أو كما قال له أوغسطينوس " تأخرت كثيراً فى حبك أيها الجمال الفائق الوصف " .
هناك أمران يعطلان عبارة " لك وحدك أخطأت " :
أ- أولهما عدم أحساسنا بالخطايا الموجهة إلى الله . فنحن نسعى إلى أن نصطلح مع الناس حينما نحس أننا قد أخطأنا إليهم . و لكننا نادراً ما نبذل جهداً للصلح مع الله ، لأننا لا نحس أننا أحزنا الله بخطايانا . بينما العهد القديم يشعرنا بهذا الأمر و خطورته ، فيجعل المحرقة هى أول الذبائح " لا1" ، و هى ترمز إلى مصالحة قلب الله الغاضب على خطايانا ، و استيفاء العدل الإلهى . بينما الخطايا إلى الناس و إلى أنفسنا تمثلها ذبيحة الخطية و ذبيحة الإثم . فمصالحة الله أولاً ، ثم خلاصنا من العقوبة بعد ذلك …
إن أخطأنا إلى إنسان ، نفكر كيف نصالحه . و لكننا لا نفكر فى نفس الوقت كيف نصالح الله !!
كما لو كانت الخطية موجهة فقط ضد الناس ، و ليس ضد الله . هنا تصحح تفكيرنا عبارة " لك وحدك أخطأت ، و الشر قدامك صنعت " . لذلك أجعل مشاعرك حساسة جداً من نحو الله . و فى كل خطية ترتكبها . فكر أولاً كيف أنك أسأت فيها إلى علاقتك بالله . و لا تجعل مشاعرك نحو الله فى المرتبة الثانية . و ليملك عليك الشعور بأنك أغضبت الله ، أكثر من شعورك بأنك أستحققت العقوبة . الله أولاً : أو كما قلنا : ذبيحة المحرقة أولاً ، قبل ذبيحتى الخطية و الإثم …
ب- المشكلة الثانية هى أننا نكتفى بالإعتراف ، بدون الشاعر :
كل همنا أن نعترف ، و نستريح بهذا تماماً ، كما لو كان الأمر قد أنتهى … نذكر خطاياك ، دون أن نفكر فى أن نصطلح مع الله ! دون أن نعتذر إليه ، و دون أن نفكر فى أن نصطلح مع الله ! دون أن نعتذر إليه ، و دون أن نندم على أننا أحزنا قلبه المحب ، و دون أن نقارن بين أحساناته إلينا ، و إساءتنا إليه . و نقول له فى ندم و فى إنسحاق قلب " نحن يا رب كنا ناكرين لجميلك . و ما فعلناه هو خيانة لك و لمحبتك . ماذا نقول ؟ إننا فى خجل منك … " … لذلك أسأل نفسك :
هل أنت حزين لأنك أخطأت ، أم أحزنت قلب الله ؟
هل كل ما نفكر فيه هو التخلص من عقوبة الخطية ، أم أنت تريد أرجاع علاقة الحب بينك و بين الله ؟ هل الإعتراف هو علاقة بينك و بين الآب الكاهن : أنت تتكلم و هو يسمع و يقرأ لك الحل ؟! أم أنك تعترف على الله فى سمع الكاهن ، و تسمع المغفرة من الله من فم الكاهن ؟ و الإعتراف على الكاهن هو علاقة بينك و بين الله أصلاً ، تقول له فيها " لك وحدك أخطأت " .
لا تفصل اعترافك عن التوبة و عن الله .
إن سر الإعتراف يسمى فى الكنيسة " سر التوبة " فاذهب إلى الإعتراف بقلب منكسر ، نادم حزين على أنه أغضب الله و أنفصل عنه . و فى سر الأعتراف حاول أن تصطلح مع الله و ترجع إليه و كل اعتراف تقوله ، اشعر أنك تقول لله فى سمع الكاهن ، و تقول له فيه " لك وحدك أخطأت " و ليكن خجلك من الله أكثر من خجلك من أب الأعتراف .
بعد قوله " لك وحدك أخطأت ، و الشر قدامك صنعت " .. قال :
أى مهما قلته يا رب عنى ، و مهما حكمت به على ، فأنت بار فى كل أقوالك و فى كل أحكامك ، لأنى أخطأت و فعلت الشر قدامك ، و أنا مستحق لكل عقوباتك . لست أجادلك أو أناقشك أبداً ، فأنت الذى تغلب ، لأنه أمامك " يسند كل فم " (رو19:3) .
أما عبارة " إذا حوكمت " فمعناها : إذا عوقبت أو نوقشت .
أو إذا قلت لك " يا رب لماذا … ؟ " أو كما قال ارميا النبى " ابر أنت يا رب من أن أخاصمك . و لكنى أكلمك من جهة أحكامك : لماذا … " (ار1:12) أنا لست استطيع أن أتكلم ، لأنى مضبوط فى الخطية ، و خطاياى كثيرة و بشعة . إن ناقشتك فى حكمك ستغلب . فالأفضل أن أصمت .
أى أن الخطايا لها جذورها فى طبيعتى البشرية … هذه الطبيعة التى فسدت منذ البدء ، و ورثت أنا هذا الفساد فى طبعى ، حينما حبلت بى أمى . لست أقدم هذه الحقيقة كاعتذار ، إنما مجرد تقرير لحالتى … إذ كيف أعتذر ، و أنت
فأنا لم أخطئ عن جهل ، لأنك كشفت لى كل شئ فى شريعتك ، و فى الضمير الذى وهبتنى إياه . فلم يعد شئ من الحق غامضاً أمامى أو مستوراً عنى . أعطيتنى الوصية ، قبل أن أقع فى الخطية . فماذا أقول إذن ؟! و أى عذر أتقدم به ؟! لست أقول سوى :
نلاحظ هنا أن المرتل مرتبك . يقول الكلام و يعيده . ينتقل إلى معنى جديد ، ثم يرجع إلى الكلام السابق فيكرره … لقد قال من قبل " اغسلنى كثيراً من إثمى ، و من خطيتى طهرنى " . و هو يعيد الكلام عن حاجته إلى الغسيل و التطهير … ثم يعود فيما بعد فيقول " قلباً نقياً اخلق فى يا الله ، و روحاً مستقيماً جدده فى أحشائى " .
مامعنى قوله " أذضح على بزوفاك فأطهر ؟ " .
الزوفا كانت نباتاً مثل شرش الجزر " يغمسونها فى دم الذبيحة ، و يرشون بها للتطهير ، أى للتطهير بالدم .
و حسن أن يذكر الإنسان هذا الأمر فى صلاته ، لأنه بدون سفك دم ، لا تحصل مغفرة (عب22:9)
فهو محتاج للتطهير … و لا يأتى هذا التطهير إلا بالزوفا المغموسة فى دم الفادى الكريم ، كما قال القديس يوحنا الرسول " و دم يسوع المسيح إبنه يطهرنا من كل خطية " (1يو7:1) … و المرتل يذكر إنه محتاج أن يغتسل بهذا الدم ، فيقول :
و فى بفس الطهارة و النقاوة ، التى يكرر طلبها كثيراً فى هذا المزمور … أنا سقطت و تدنست و تنجست . و هوذا أنا ألجأ إليك طالباً أن تطهرنى من هذه الطبيعة الفاسدة الميالة للسقوط و من هذه الخطية الحالية … لست عن عقوبة أتكلم ، و إنما عن حاجتى إلى الخلاص و إلى النقاوة الكاملة التى فيها أبيض أكثر من الثلج . و تزول هذه الخطية من أمام وجهك ، حسب وعدك عن الشرير فى حالة توبته " إنه حياة يحيا … لا يموت . كل خطيته التى أخطأ بها ، لا تذكر عليه " (مز15:33،16) نعم لا تذكر عليه ، حسب وعدك " و خطاياك لا أذكرها " (اش25:43) ، لأنها قد محيت تماماً (اش25:43) (اش22:44) (ار34:31) لا يحسبها علينا (2كو19:5) (مز2:32) . و لأنه الآن قد " أبيض أكثر من الثلج " … تعبير عجيب ، أسمى من أن يشرح …
يكرر داود الكلام عن حاجته إلى التطهير و النقاوة ، لأنه فى عمق الحزن بسبب سقطته . لذلك يقول للرب :
و فى بعض الترجمات " فتبتهج عظام قد سحقتها " أما ترجمة " فتبتهج عظامى المتواضعة " فهى ترجمة غير دقيقة . تشبهها أيضاً عبارة " انظر إلى تواضعى و تعبى " و صحتها " انظر إلى انسحاقى أو ذلى ، و تعبى " …
هنا نتأمل أهمية الانسحاق و الحزن المقدس :
كل إنسان معرض للخطية . لا يوجد أحد أكبر من الخطية ، التى طرحت كثيرين جرحى و كل قتلاها أقوياء " (أم26:7) . فى الخطيةسقط شمشون و داود و سليمان و بطرس الرسول و غيرهم . و لكن الفرق بين الشخص الروحى و الشخص غير الروحى ، هو أن الروحى يسقط و يحزن كثيراً على خطيته ، مثلما فعل بطرس ، إذ خرج خارجاً ، و بكى بكاءاً مراً (متى75:26) . أما غير الروحى ، فإنه يسقط و يقابل بلا مبالاة !
و داود – لأنه شخص روحى – حزن على خطيته …
عدم الحزن على الخطية هو ظاهرة روحية غير صحيحة . و لهذا الأمر أسباب عديدة نذكر منها :
1- إما أن هذا الإنسان عنده شئ من البر الذاتى ، يجعله يشعر أنه لا يخطئ …
2- و أما أن ضميره واسع ، ، و مقاييسه الروحية غير سليمة ، فلا يشعر بعمق الخطية ، أو قد لا يحس اطلاقاً أنه أخطأ . أو أنه يحس الخطأ ، و لكنه يتساهل معه .
3- و إما أنه لا يجلس إلى نفسه لكي يفحصها و لكي يحاسبها ، فهو فى غفوة و يحتاج إلى يقظة روحية .
4- و إما أنه من النوع الذى يدلل ذاته و يجاملها ، و يقدم لها تبريرات عديدة فى أخطائها . فكل خطأ يرتكبه ، يضع أمامه عذراً أو عذراً تخفف منه و تستر عليه …
5- و إما أنه من كثرة أستمراره فى الخطية ، قد أعتادها ، و أصبحت بالنسبة إليه شيئاً طبيعياً أو عادياً ، لا غرابة فيه ، و لا يستلزم التوقف عنده ، للحكم عليه أو للحزن بسببه … !
6- و إما أن هذا الخاطئ يعيش فى بيئة غير روحية . فهى غير مدققة فى أفعالها . فهى لا تجعله يشعر أبداً أنه قد أخطأ ، بل قد تساعده على الخطأ و تشجعه عليه ، أو تبدأ الخطأ و تشركه معها … و إن شعر أنه يخطئ ، تهون عليه الأمر . و لذلك فإن الذين يعيشون فى بيئة خاطئة ، لا يحزنون على خطية يرتكبونها !
مثال ذلك : إنسان يعيش فى بيئة أو فى بيت كل من فيه يشتم و يحلف . هذا يشتم أو يحلف ، لا يجد من يوبخه . بل يبدو الأمر عادياً جداً . بعكس الذى يعيش فى بيئة متدينة ، إن فعل هذا يخجل و يحزن ، لأن السامعين لا يتقبلون ذلك منه .
7- كذلك الإنسان الذى يعيش فى لذة الخطية ، هذا لا يجد فى داخله ما يبكته أو ما يحزنه !
بل هو على العكس سعيد بالخطية ، لا يحزن على ارتكابها بل قد يحزن على تركها أو على الحرمان منها ! و داود فى بادئ الأمر لم يكن حزيناً على خطيته ، بل كان مستمراً ، ينتقل من خطوة إلى أخرى تكملها ، يرفه عن نفسه بهذه الخطية و بإكمالها " إلى أن نبهه ناثان النبى إلى بشاعة ما
فعل . و حينئذ حزن داود .
حقاً ما أكثر ما يستمر إنسان سنوات فى خطيته ، دون تبكيت من ضمير ، و دون حزن على ما فعل و ما يفعل !
و كما ذكرت لكم فى كتاب ( اليقظة الروحية ) أن يشبه كرة تتدحرج من على جبل ، و تظل تتدرج إلى أسفل ، دون أن تملك قوة الوقوف . إلى أن يحدث مثلاً أن يعترضها حجر كبير فيوقفها بعد إنحدار طالت مدته … !
أخيراً استيقظ داود إلى نفسه ، و فى غمرة الحزن على سقطته قال للرن فى إلم و فى رجاء :
" اسمعنى سروراً و فرحاً ، فتبتهج عظامى المنسحقة " .
اسمعنى عبارة عزاء تريحنى و تريح ضميرى من الداخل … عبارة طيبة تدخل الفرح إلى قلبى الحزين ، و إلى نفسى المنسحقة … و لكن الله أحياناً حينما يخلص إنساناً ، و يرد إليه سروره ، لا يسمح أن يتم ذلك بسرعة ، لأن هناك مبدأ معروفاً يقول " إن الشئ الذى تناله بسرعة ، قد تفقده بسرعة " ذلك لأنك لم تتعب فى الحصول عليه ، و لم تعرف قيمته كما ينبغى …
لذلك يسمح الله أن المخطئ ، يستمر فى حزنه فترة …
يبقى فترة فى الذل و الحزن و الألم و الإنسحاق ، حتى تستوفى التوبة نصيبها من الندم ، و يشعر الإنسان الإنسان ببشاعة ما قد فعل .و حينئذ . إن سمح له الله بالفرح ، لا يقوده هذا الفرح إلى الاستهتار ، لأنه مؤسس على دعامة من الإنسحاق .
و للأسف ، فإنه فى بعض الطوائف ما أن يتوب خاطئ ، حتى يهللون و يفرحون ؟، و يطلبون منه أن يقف على المنبر ليحكى (اختباره ) للناس … و هكذا يتحول بسرعة و فجأة من خاطئ إلى واعظ !! و لكن الكتاب لم يعلم بهذا …
إن الحزن مفيد للإنسان روحياً ، لذلك يسمح الله به :
و قد ضرب لنا الكتاب مثلاً بحزن داود ، الذى بلل فراشه بدموعه ، و بحزن بطرس الرسول الذى بكى بكاءاً مراً . و ذكر لنا أيضاً الذل الذى كابده شمشون إلى أستجاب الله لصلاته أخيراً . و ما أكثر الآيات التى ذكرت فى الكتاب عن البكاء والدموع و الحزن المقدس … و لكنى سأذكر هنا مثالاً واضحاً بارزاً ، و هو :
فرح بولس الرسول بحزن أهل كورنثوس والشاب الخاطئ :
فى الرسالة الأولى أمر أن يسلم هذا الخاطئ للشيطان لإهلاك الجسد ، لك تخلص الروح فى يوم الرب (1كو5:5) . و وبخ أهل مورنثوس لأنهم لم يعزلوا الخبث من وسطهم ، و لأنهم " لم ينجوا " (1كو2:5،13) . و فى الرسالة الثانية يذكر أنه أحزنهم ، و يعلق فرحة بحزنهم ، فيقول : " الآن أنا أفرح ، لا لأنكم حزنتم ، بل لأنكم حزنتم للتوبة ، لأنكم حزنتم بحسب مشيئة الله … " (2كو9:7)
و يقول عن هذا الحزن " لكي لا تتخسروا منا فى شئ . لأن الحزن الذى بحسب مشيئة الله ينشئ توبة لخلاص بلا ندامة … فإنه هو ذا حزنكم هذا عينه بحسب مشيئة الله ، كم نشأ فيكم من الإجتهاد … بل من الغيرة … " (2كو9:7-11) .
كذلك ذلك الشاب المخطئ نفعه الحزن ، و نفعه العزل و العقوبة ، حتى أن الرسول عاد ليقول " يكفيه هذا القصاص … حتى تكونوا بالعكس تسامحونه بالحرى و تعزونه، لئلا يبتلع مثل هذا من الحزن المفرط " (2كو6:2،7) .
مسكين الإنسان الذى يخطئ ، و لا يحزن على خطيئته ، و لم يجد كذلك من يحزنه ، و يوبخه على خطيئته … و هكذا مرت الخطية بسهولة بلا ندم ، و بلا مذلة … و مسكين أكثر الإنسان الذى لا يقبل التوبيخ ، و يحزن بسببه لا بسبب الخطية ! كيف يصل مثل هذا الإنسان الخاطئ إلى التوبة ؟! و إلى الندم و الحزن المقدس … إننى أتأمل أولئك الذين حزنوا على خطاياهم و أتعجب …
و بخاصة الذين شهرت خطاياهم ، و سجلت فى كتب !
من منا لا يذكر خطيئة داود التى ذكرت فى الكتاب المقدس (2صم11،12) ، و التى سجلها داود فى مزاميره ، مصحوبة بدموعه ، و يرددها الناس حينما يصلون ، على الرغم من أنها نقلت عنه و محيت و أبيض أكثر من الثلج .
و من منا لا يذكر إنكار بطرس ، و يجعله كثير من الوعاظ موضوعاً لعظاتهم ، على الرغم من توبة بطرس و تعبه الكثير فى الكرازة و التبشير … ! و من منا لا يذكر زنا رحاب ، على الرغم من خلاصها و ذكرها فى سلسلة الأنساب … و مع ذلك مازال ؟إسمها هو راحاب الزانية ، ليس فقط فى العهد القديم (يش17:6) بل حتى فى العهد الجديد أيضاً (عب31:11) فى قائمة شخصيات الإيمان ! أترانا سنناديها باسم راحاب الزانية فى الأبدية أيضاً ؟؟
بل لنأخذ مثال القديس أوغسطينوس فى أعترافاته …
لقد كتب اعترافاته فى كتاب قرأته جميع الأجيال من بعده … مع أنه صار من آباء الكنيسة المشهورين الذين دافعوا عن الإيمان ، و له مؤلفات مملوءة بالتأملات الروحية العميقة التى أستفاد بها الملايين ، إلا أن خطيته ليست فقط أمامه كل حين ، بل أمام الكل فى جميع الأجيال منشورة و مشهورة .
كذلك أيضاً نذكر القديسين الذين شهرت خطاياهم ،
على الرغم من أنهم تابوا و صاروا من قديسى التوبة ، ووصل بعضهم إلى الرهبنة ، و إلى السيامة ، و إلى منصب الرعاية الكبرى ... و من بين هؤلاء القديس موسى الأسود ، و القديس كبريانوس رئيس الأساقفة و القديسين ، و القديسة مريم القبطية ، و القديس بيلاجية … و خطايا هؤلاء القديسين ، و القديسات مسجلة يدرسها الكبار و الصغار …
و ماذا نقول نحن عن أنفسها الذين خطايانا مستورة ، و مع ذلك لم نبك و نحزن عليها !!
مع أننا أعترفنا بها فى السر و لا يعلم بها أحد . و إن تصادف و اشار أحد إلى شئ منها ، و لو من بعيد ، و لو عن طريق التلميح ، نثور و نضج ، و نقيم الدنيا و نقعدها ، و لا نعترف أننا أخطأنا بشئ ! حتى الاعتراف السرى على الكاهن نستثقله أحياناً و نستصعبه ! أين التوبة إذن و الحزنالمقدس ؟ هوذا القديس مقاريوس الكبير يقول " احكم يا أخى على نفسك قبل أن يحكموا عليك " . لعله أقتبس هذا من (1كو31:11) . أترانا أيضاً نقبل التأديب و نرضى به كما قال الرسول :
" نؤدب من الرب ، لكي لا ندان مع العالم " (1كو32:11) .
على الأقل نمارس شيئاً من هذه الكآبة المقدسة التى قال عنها الكتاب " بكآبة الوجه يصلح القلب " (جا3:7) . نمارس الحزن المقدس الذى نشعر فيه أننا بالخطية قد سقطنا ، و أنفصلنا عن الله ، و عن شركة الروح القدس ، و أحزنا الروح القدس ، و الملائكة و القديسين … و لو إلى حين … و نندم و نبكى على خطايانا .
إن ندم داود ، لم يكن ندماً عابراً ، بل مستمراً …
لم يكن ندماً إلى لحظة و أنتهى ، بل إنه يقول " أعوم فى كل ليلة ، و بدموعى أبل فراشى " (مز6) لاحظ عبارة – كل ليلة – و يقول أيضاً (خطيئتى أمامى فى كل حين " . و عبارة – كل حين – تعنى الاستمرارية . إن لذة الخطية كانت إلى لحظة أو لحظات ، أما الندم عليها فكان كل حين ، إنها أفقدته عزاءه الداخلى … لذلك صرخ إلى الله قائلاً " اسمعنى سروراً و فرحاً فتبتهح عظامى المنسحقة " . و لا يقصد عظام الجسد ، و إنما رمز ذلك روحياً إلى إنسحاق نفسه .
يذكر المرتل الوسيلة التى تبتهج بها عظامه المنسحقة فيقول :
" قلباً نقياً اخلق فى يا الله . و روحاً مستقيماً جدده فى أحشائى . لا تطرحنى من قدام وجهك . و روحك القدوس لا تنزعه منى " .
" أمنحنى بهجة خلاصك ، و بروح رئاسى عضدنى " .
فهو يريد أن خطاياه ، لا تكون أمام عينى الله باستمرار أى لا يذكرها له الله ، بل يمحوها كأن لم تكن . و لكن الوسيلة التى بها ينسى الله الخطايا ، هى أن يتوب الخاطئ ، و يصير له قلب نقى و روح مستقيم .
فطالما هو مستمر فى خطاياه ، تظل هذه الخطايا قائمة أمام الله ، لا يصرف وجهه عنها . إذن لابد من التوبة و نقوة القلب و حياة الإستقامة . و هنا يرى المرتل أن هذه النقاوة ليست فى مقدور إرادته الضعيفة ، فقد جرب نفسه ، و عرف كم هو ساقط ، و كم هو سهل الإنجذاب إلى الخطية . إذن لابد من معونة إلهية ليحيا فى النقاوة . و لذلك يقول " قلباً نقياً اخلق فى يا الله … " .
و عبارة " اخلق " لا تعنى مجرد اصلاح القلب و ترميمه !
بل تعنى أنه يريد قلباً آخر غير هذا القلب القديم الذى أخطأ ، قلباً من عند الله ، عبارة عن " خلقة جديدة " (2كو17:5) . فلا يبقى القلب كما هو ، و تضاف إليه بعض المشاعر و كأنها " رقعة جديدة على ثوب عتيق " (متى16:9) . و إنما المطلوب هو خلق قلب جديد لا علاقة له بالماضى كله ، بما فى ذلك الماضى من ذكريات و أفكار و إنفعالات .
و إلى جوار القلب الجديد ، روح مستقيم .
داود إذن يريد الإصلاح من الداخل ، القلب و الروح ، وليس مجرد اصلاح التصرفات الخارجية ، فكثيراً ما يغير الإنسان تصرفاته الخارجية ثم يرجع مرة ثانية إلى الخطية ، لأن القلب نفسه ليس سليماً ، و الروح ليس مستقيماً . و لكن المرتل يهتم هنا بداخله فيقول " فى أحشائى " .
و يطلب إلى جوار روحه المستقيم ، عمل روح الله فيه .
فيقول للرب " روحك القدوس لا تنزعه منى " … حقاً إننى لم أطع روحك ، و لم أشترك معه فى العمل ، بل قاومته و أحزنته . و مع ذلك " لا تنزعه منى " . أستبقه فى داخلى ، يبكتنى على خطية (يو8:16) ، و يرشدنى إلى كل حق ، و يذكرنى بكل ما قلته لى (يو13:16) (يو26:14) ، فنزع روحك منى ، معناه أنك قد طرحتنى من قدام وجهك ، و قطعت صلتك بى تماماً … !
عضدنى إذن بروحك لكيلا أفشل … و ماذا أيضاً ؟
يجب أن نأخذ هذه الطلبة بمعنى رمزى ، و ليس بمعنى حرفى . فمن غير المعقول أن المصلى و هو منكسر القلب و شاعر بخطاياه ، ينتقل فجأة إلى موقف المعلم و المرشد ! أما أنت فحينما تقول هذه العبارة فى صلاتك ، قل فى ذهنك : هؤلاء الأثمة ليسوا سوى حواسى و أفكارى و مشاعرى . أما المنافقون فأعنى بهم المظاهر التى أبدو بها أمام الناس باراً و أنا مملوء بالخطية !! و إذ يتذكر الإنسان كلها أمام الله ، يصرخ قائلاً :
و لعلك تقول : " و ما شأنى بهذه الطلبة ، و أنا لم أسفك دماً طوال حياتى ؟! " . أقول لك : بل هذه الطلبة تخصك و تخص كل إنسان على وجه الأرض ، إذا فهمنا كلمة الدماء بمعنى آخر و هو :
النفوس التى هلكت ، و من يدك يطلب الله دمها :
و لعل هذا يوافق ما ورد فى سفر حزقيال النبى ، حيث يقول الرب "… فذلك الشرير يموت بذنبه ، أما دمه فمن يدك أطلبه " (حز8:33) . مثل هذا الدم هو الذى تطلب من الله أن ينجيك منه … إذن يمكن أن يكون المقصود بالدماء فى هذه الآية ، هو المعنى الروحى و ليس مجرد المعنى المادى …
الذين يتسببون فى هلاك غيرهم ، يطالبهم الرب بدمائهم :
من أمثلة ذلك كل من يعثر غيره و يوقعه فى الخطية ، حتى لو لم يخطئ معه … من أمثلة ذلك الفتاة التى تعثر شاباً فيسقط فى الخطية بالفكر و الشهوة أو بالفعل بسببها ، حتى دون أن تسقط هى معه … ومن أمثلة ذلك بلعام الذى ألقى بعثرة أمام بنى إسرائيل (رؤ14:2) . و بالمثل من يعثر غيره بأفعاله الخاطئة ، فيوقعه فى خطية الإدانة و ما يصحبها من غضب … أو من يثير غيره و يوقعه فى الغضب ، دون أن يغضب هو .
كذلك تنطبق هذه الطلبة على من ينشرون البدع و الهرطقات و التعليم الخاطئ .
فإن كان الناس يمكن أن يهلكوا روحياً و يفقدوا أبديتهم ، عن طريق البدعة و الهرطقة ، إذن لابد أن يطالب بدمائهم من أخترع هذه البدع و من نشرها و من علم بها … ترى كم من الدماء سوف يطالب بها أريوس و أوطاخى و نسطور ، و كذلك من ينشرون أفكار شهود يهوه و أمثالهم … لأجل هذا كله يقول الرسول " لا تكونوا معلمين كثيرين يا أخوتى ، عالمين أننا نأخذ دينونة أعظم ، لأننا فى اشياء كثيرة نعثر جميعنا " (يع1:3،2) . فليحترس إذن الذين ينشرون تعاليم خاطئة ، لأنهم بذلك ينالون دينونة أعظم ، و فيها يطالبهم الله بدماء كل من أعتنقوا تعاليمهم … كم و كم إذن تكون دينونة من ينشرون الإلحاد بالتعاليم و بالكتب و بالسلطة و بالمثل كل من يثيرون الشكوك فى الدين و فى العقيدة و يفسدون إيمان كثيرين يطالبهم الله بدمائهم …
تنطبق هذه الطلبة أيضاً على الذين يهملون فى أمور الرعاية و الخدمة و التعليم .
و هكذا يقول الرب فى سفر حزقيال النبى " إن لم تتكلم لتحذر الشرير من طريقه ، فذلك الشرير يموت بذنبة . أما دمه فمن يدك أطلبه " (حز8:33) و ينطبق هذا على كل الذين يعملون فى الرعاية ، كل منهم فى نطاق اختصاصه … وفى طقس رسامة البطريرك يقال له " تسلم عصا الرعاية من يد راعى الرعاة الذى أئتمنك على رعيته . و من يدك يطلب دمها "