هذا مضى إلى شيخٍ تبايسي كان مقيماً في البريةِ فتتلمذ له، وحدث أن معلِّمَه دفع إليه غُصناً يابساً وأمره أن يغرسَه ويسقيه كلَّ يومٍ بجرةِ ماء، وكان الماءُ بعيداً عنهما، فكان يمضي في العشيةِ ويجيءُ في الغدِ. وبعد ثلاث سنين اخضرَّ الغصنُ وأعطى ثمرةً. فجاء بها إلى الشيخِ، فأخذها الشيخُ وجاء بها إلى الكنيسةِ وقال للإخوةِ: «خذوا كلوا من ثمرةِ الطاعةِ».
وحدث مرَّة أن قال لأخيه الأكبر: «إني أودُّ أن أكونَ بغيرِ همٍّ مثل الملائكة، لأنه لا اهتمام لهم ولا شيئاً يعملونه سوى أنهم يتعبدون للهِ دائماً». وإنه نزع ثوبَه وخرج عارياً إلى البريةِ. فأقام أسبوعاً ثم عاد إلى أخيه، فلما قرع البابَ عرفه أخوه، فَقبْلَ أن يفتحَ له البابَ قال له: «من أنت»؟ فقال:« أنا يوحنا أخوك». فجاوبه: «إن يوحنا أخي قد صار ملاكاً وليس هو من الناسِ الآن». فردَّ عليه قائلاً: «أنا هو أخوك». فلم يفتح له البابَ وتركه إلى الغدِ، حيث فتح له وقال: «اعلم الآن أنك إنسانٌ محتاجٌ إلى عملٍ وغذاءٍ لجسدِك»، فصنع له مطانية واستغفر منه.
قال الأب يوحنا القصير: «إذا أراد ملكٌ أن يأخذَ مدينةَ الأعداءِ فقبل كلَّ شيءٍ يقطعُ عنها الشرابَ والطعامَ، وبذلك يُذلُّون فيخضعون. هكذا أوجاعُ الجسدِ، إذا ضيَّق الإنسانُ على نفسِه بالجوع والعطش إزاءها فإنها تضعف وتذلَّل له».
وقال أيضاً: «من امتلأ بالطعامِ وتحدث مع صبيٍ فقد زنى معه بفكرِه».
وقال أيضاً: «إني كنتُ ماضياً مرةً في طريقِ الإسقيط ومعي القففُ محمولةً على جملٍ، وفجأة أبصرتُ الجمّال وقد تحرك فيه الغضبُ، فتركتُ كلَّ ما كان لي وهربتُ».
ومرة أخرى كان في الحصادِ فأبصر أخاً قد غضب على آخر، فهرب وترك الحصادَ.
وجاء مرة إلى الكنيسةِ فسمع مجادلةً في الكلامِ بين الإخوةِ، فرجع إلى قلايتهِ ودار حولها ثلاثَ دوراتٍ ثم عاد ودخل فيها. فسألوه لماذا فعلتَ ذلك؟ فقال: «إن صوتَ المجادلةِ كان لا يزالُ في أذني، فقلتُ: أخرجه من أذني قبل أن أدخل قلايتي، كي يكون عقلي داخل القلايةِ نقياً».
وقال أيضاً: «إن عقلَ الإنسانِ آنيةٌ للهِ وله الاستطاعة أن ينظِّفه كي يمكنه أن يجلس في القلايةِ. أما إن جعله الإنسانُ وعاءً لحديثِ العالم فلن يستطيعَ أن يجلسَ في القلاية».
وحدث مرة أن كان جالساً مع الإخوةِ قدام نرثكس الكنيسة (أي قدام مدخلها)، وكان كلُّ واحدٍ منهم يكشف له أفكارَه، فنظره أحدُ الشيوخِ وامتلأ حسداً عليه، فقال: «يا يوحنا، إنك ممتلئٌ سحراً»، فقال: «الأمرُ هكذا كما تقول يا أبتاه، ولكنك بنيتَ حُكمَك هذا على ما نظرته في الظاهر، فما عساك كنتَ تقول لو علمتَ بالخفاءِ».
ومرة كان جالساً في الإسقيط وقد أحدق به الإخوةُ يكشفون له أفكارَهم. فلما رآه أحدُ الشيوخِ قال له: «يا يوحنا، لقد زيَّنتَ ذاتَك كالزانيةِ التي تُكثر من عشاقِها». فصنع له مطانية قائلاً: «حقا قلتَ يا أبتاه». وبعد ذلك سأله الإخوةُ إن كان قد اضطرب من داخل، فقال: «ما اضطربتُ البتة، لكن كما كان خارجي كذلك كان باطني».
ومرة سألوه :«ما هو عملُ الراهبِ»؟ فقال: «تعبُ الجسدِ وضيقُ البطنِ وغَلَبةُ الإرادةِ».
ومرة كان الإخوةُ جلوساً يأكلون في أغابي، فضحك أحدهُم على المائدةِ، فنظر إليه وبكى قائلاً: «تُرى ماذا خطر ببالِ هذا الأخ حتى أنه ضحك هكذا، مع أنه كان يجب عليه البكاءَ، لأنه يـأكل طعامَ الصدقةِ».
ومرة أخرى جاء إليه إخوةٌ ليجرِّبوه لأنه ما كان يسمح لفكرِه بحديثٍ بشري، ولا كان يتلفَّظ بشيءٍ من أمور العالم. فقالوا له: «الشكر لله يا أبانا، إن هذه السنة أمطرت أمطاراً كثيرة، وقد شرب النخلُ ورُوي وها هو يُخرج السعفَ ليجدَ الإخوةُ حاجتهم منه لعمل أيديهم». أما هو فقال لهم: «إن نعمةَ الروحِ القدس إذا ما حلَّت في عقلِ إنسانٍ أَرْوَتهُ وجدَّدته ليُخرج أثماراً تصلحُ لعملِ الله».
وقال أيضاً: «أنا أشبه إنساناً جالساً تحت شجرةٍ عظيمةٍ وهو ينظرُ إلى الوحوشِ والذئاب وهي مقبلةٌ نحوه، فإذا لم يستطع ملاقاتها هرب صاعداً فوق الشجرةِ فينجو منها. هكذا أنا جالسٌ في قلايتي أبصر الأفكارَ الخبيثة تأتي إليَّ، فإذا لم أستطع صدَّها هربتُ إلى الله بالصلاةِ ونجوتُ».
وقال أيضاً: إن أحدَ الرهبانِ رأى بالنظرِ المعقول ثلاثة رهبان وقوفاً على شاطئ البحر، فجاءهم صوتٌ من الشاطئ الآخر قائلاً: «خذوا لكم أجنحةً من نارٍ وتعالوا إلينا». فاثنان منهم أخذوا أجنحةً نارية وطارا بها إلى الجانب الآخر، أما الثالث فصار يبكي ويصرخ نائحاً، وفي آخر الوقت أُعطي أجنحة لكنها عديمة القوة، وبصعوبةٍ كان يطير ثم يعود فيسقط، فينهض ثم يعود فيغرق، وهكذا حتى وصل إلى الجانب الآخر بعد تعبٍ عظيم. هكذا يكون عملُ هذا الجيلِ، فإن كان قد أخذ أجنحةً ولكن نارَ الروحِ ليست فيها، وبذلك تجدها قد عدمت قوة روح الله.
وقال أيضاً: ثلاثةُ فلاسفةٍ كانوا متآخين، فمات أحدُهم وترك ابناً صغيراً، وكان قد أوصى به إلى أحدِهم، فلما شبَّ الغلامُ أراد أن يعلِّمه الفلسفةَ، فأمره أن يمضي إلى ديرِ رهبانٍ ويحتملَ الإهانةَ لمدة ثلاث سنين. ففعل هذا، ثم جاء إليه فلم يقبله، وقال له: «إنك ما تأدبتَ بعد، ولكن امضِ وأقِم ثلاث سنين أخرى، وأعطِ أُجرةً لمن يشتمك»، ففعل ذلك. ولما عاد إليه أرسله بكتابٍ إلى صديقٍ له في أثينا في مجلسِ الحكماءِ، وكان هناك شيخٌ حكيمٌ جالسٌ على البابِ يشتِمُ كلَّ من يدخل. فلما دخل الشابُّ، شتمَه، فضحِكَ منه. فقال له الفيلسوف: «ها أنا ذا أشتِمُك وأنت تضحك»؟ فقال له الشابُّ: «أما تريدني أن أُسَرُّ وأنا لي اليومَ ثلاثَ سنين أُعطي أُجرةً لمن يشتمني، والآن وجدتُ من يشتمني مجاناً فلذلك ضحكتُ». فقال له الشيخُ: «هلم اصعد إلى مجلسِ الفلاسفةِ». ثم قال القديسُ: «إن هذا هو بابُ مدينةِ الله، وآباؤنا باحتمالهم الشتائم والهوان دخلوا فيه مسرورين».
ومرة كان الأب يوحنا صاعداً من الإسقيط مع إخوةٍ فضلَّ مرشدُهم عن الطريقِ لأنه كان ليلاً، فقال الإخوةُ لأنبا يوحنا: «ماذا نصنعُ لأن الأخ قد ضلَّ الطريق»؟ فقال لهم: «إن قلنا له شيئاً حزن واستحى، فالأفضل هو أن أتظاهر بأني مريضٌ وأقول: إني لن أستطيعَ المشي لأني في شدةٍ، وبذلك نجلس إلى الغدِ». فلما أعلن لهم رأيه هذا وافقوا وقالوا: «ونحن أيضاً نجلس معك»، وفعلاً جلسوا إلى الغدِ ولم يُحزنوا الأخَ المرشد.
ومرة قال للإخوة: «من باع يوسف»؟ فقالوا له: «إخوته». فقال: «ليس إخوته ولكن اتضاعه هو الذي باعه. لأنه كان قادراً أن يقولَ للذي اشتراه إنه أخوهم، لكنه سكت وباتضاعهِ بيع، وبذلك الاتضاع صار مدبِّرَ مَلِك مصر».
وقال أيضاً: «إن الأسدَ شجاعٌ مهاب، ولكنه من أجلِ شهوتهِ ورغبتهِ يقعُ في الفخِ، فتبطل قوَّتُه ويصير هزءاً للناس، كذلك الراهب إذا فقد قانونَه وتَبعَ شهوتَه أهلك وقارَه وصار هزءاً لكل أحدٍ».
وقيل عنه: «إنه ضفَّر في بعضِ الأوقات ضفيرةً تصلح لعمل زنبيلين، لكنه خاطها زنبيلاً واحداً ولم يعلم إلا عندما وصل إلى آخرِ الضفيرة، وذلك لأن فكرَه كان مشغولاً بالمناظر الإلهية».